كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا، وإن كان في حكم المنقطع، فإن له شاهدا من وجه آخر، وهو حديث طلْق بن غنام: أخبرنا شريك وقيس عن أبى حصين عن أبى صالح عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» وقيس هو ابن الربيع، وشريك ثقة، وقد قوى حديثه بمتابعة قيس له، وإن كان فيه ضعف.
وله شاهد آخر من حديث أيوب بن سويد عن ابن شوذب عن أبى التياح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نحوه، وأيوب بن سويد- وإن كان فيه ضعف- فحديثه يصلح للاستشهاد به. وله شاهد آخر، وإن كان فيه ضعف، فهو يقوى بانضمام هذه الأحاديث إليه. رواه يحيى بن أيوب عن إسحاق بن أسيد عن أبى حفص الدمشقى عن مكحول: أن رجلا قال لأبى أمامة الباهلى: «الرَّجُلُ أَسْتَوْدِعُهُ الوَدِيعَةَ، أَوْ يَكُونُ لِى عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَيَجْحَدُنِى، ثُمَّ يَسْتَوْدِعُنِى أو يَكُونَ لَهُ عِنْدِى الشيء، أَفأَجْحَدُهُ؟ فَقَالَ: لا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ يقُولُ: أَدِّ الأمَانَةَ إلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تخُنْ مَنْ خَانَكَ».
وله شاهد آخر مرسل. قال يحيى بن أيوب: عن ابن جريج عن الحسن عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «أَدِّ الأمَانَةَ إلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تخُنْ مَنْ خَانَكَ».
وله شاهد. آخر. وهو ما رواه الترمذى من حديث مالك بن نضله قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ أَمُرُّ بهِ فَلا يُقْرِينِى، وَلا يُضَيِّفُنِى. فَيَمُرُّ بى، أفأَجْزيهِ؟ قَالَ: لا، أَقْرِهِ».
قال الترمذى: هذا الحديث حسن صحيح.
وله شاهد آخر. وهو ما رواه أبو داود من حديث بِشر بن الخصاصية، قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ أهْلَ الصّدَقَةِ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا، أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يعْتَدُونَ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: لا».
وله شاهد آخر من حديث بشر هذا أيضًا: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لَنَا جِيرَانًا لا يَدَعُونَ لَنَا شَاذّةً، وَلا فَاذّةً إلا أَخَذُوهَا فإِذَا قَدَرْنَا لَهُمْ عَلَى شيء أَنأْخُذُهُ؟ فَقَالَ: أَدِّ الأمَانَة إلى مَنِ ائْتَمَنكَ وَلا تخُنْ مَنْ خَانَك». ذكره شيخنا في كتاب إبطال التحليل.
فهذه الآثار، مع تعدد طرقها واختلاف مخارجها، يشد بعضها بعضًا، ولا يشبه الأخذ فيها الأخذ في الموضعين اللذين أباح رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فيهما الأخذ لظهور سبب الحق، فلا يُنسب الآخذ إلى الخيانة، ولا يتطرق إليه تهمة، ولتعسر الشكوى في ذلك إلى الحاكم، وإثبات الحق والمطالبة به والذين جوزوه يقولون: إذا أخذ قدر حقه من غير زيادة، لم يكن ذلك خيانة، فإن الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه، وهذا ضعيف جدًّا، فإنه يبطل فائدة الحديث. فإنه قال: «ولا تَخُنْ مَنْ خانَكَ» فجعل مقابلته له خيانة، ونهاه عنها، فالحديث نص، بعد صحته.
فإن قيل: فهلا جعلتموه مستوفيًا لحقه بنفسه، إذ عجز عن استيفائه بالحاكم، كالمغصوب ماله. إذا رآه في يد الغاصب، وقدر على أخذه منه قهرًا؟ فهل تقولون: إنه لا يحل له أخذ عين ماله، وهو يشاهده في يد الظالم المعتدى؟ ولا يحل له إخراجه من داره وأرضه؟.
وكذلك إذا غصب زوجته وحال بينه وبينها، وعقد عليها ظاهرًا، بحيث لا يتهم فهل يحرم على الزوج الأول انتزاع زوجته منه، خشية التهمة؟ وهذا لا تقولونه أنتم، ولا أحد من أهل العلم.
ولهذا قال الشافعى، وقد ذكر حديث هِنْدٍ: وإذ قد دلت السنة وإجماع كثير من أهل العلم على أن يأخذ الرجل حقه لنفسه سرًا، فقد دل أن ذلك ليس بخيانة. إذ الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه.
فالجواب: أنا نقول، يجوز له أن يستوفى قدر حقه، لكن بطريق مباح، فأما بخيانة وطريق محرمة فلا.
وقولكم: ليس ذلك بخيانة قلنا: بل هو خيانة حقيقة، ولغة، وشرعًا، وقد سماه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم خيانة، وغايتها أنها خيانة مقابلة ومقاصة، لا خيانة ابتداء، فيكون كل واحد منهما مسيئا إلى الآخر ظالما له، فإن تساوت الخيانتان قدرًا وصفة فقد يتساقط إثمهما، والمطالبة في الآخرة، أو يكون لكل منهما على الآخر مثل ما للآخر عليه وإن بقى لأحدهما فضل رجع به، فهذا في أحكام الثواب والعقاب.
وأما في أحكام الدنيا فليس كذلك، لأن الأحكام فيها مرتبة على الظواهر، وأما السرائر فإلى الله، ولهذا قال النبي صلى الله تعالى عليه وأله وسلم: «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَّى، وَإنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَقْضِى بِنَحْوِ مِا أَسْمَعُ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِه مِنْ بَعْضٍ، فَمنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيء مِنْ حَقَّ أَخِيهِ فَلا يأّخُذْهُ، فَإِنَما أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ».
فأخبر صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه يحكم بينهم بالظاهر، وأعلم المبطل في نفس الأمر أن حكمه لا يحل له أخذ ما يحكم له به، وأنه مع حكمه له به فإنما يقطع له قطعة من النار، فإذا كان الحق مع هذا الخصم في الظاهر وجب على الحاكم أن يحكم له به، ويقره بيده وإن كانت يدا عادية ظالمة عند الله تعالى، فكيف يسوغ لخصمه أن يحكم لنفسه، ويستوفى لنفسه بطريق محرمة باطلة، لا يحكم بمثلها الحاكم وإن كان محقًا في نفس الأمر؟.
وليس هذا بمنزلة من رأى عين ماله أو أمته أو زوجته بيد غاصب ظالم، فخلصها منه قهرًا، فإنه قد تعين حقه في هذا العين، بخلاف صاحب الدين، فإن حقه لم يتعين في تلك العين التي يريد أن يستوفى منها، ولأنه لا يتكتم بذلك، ولا يستخفى به، كما يفعل الخائن، بل يكابر صاحب اليد العادية ويغالبه، ويستعين عليه بالناس، فلا ينسب إلى خيانة، والأول متكتم مستخف، متصور بصورة خائن وسارق. فإلحاق أحدهما بالآخر باطل، والله أعلم.
فصل:
القسم الخامس من الحيل.
أن يقصد حل ما حرمه الشارع، أو سقوط ما أوجبه، بأن يأتى بسبب نصبه الشارع سببًا إلى أمر مباح مقصود، فيجعله المحتال المخادع سببًا إلى أمر محرم مقصود اجتنابه. فهذه هي الحيل المحرمة التي ذمها السلف، وحرموا فعلها وتعليمها.
وهذا حرام من جهتين: من جهة غايته، ومن جهة سببه.
أما غايته: فإن المقصود به إباحة ما حرمه الله ورسوله، وإسقاط ما أوجبه.
وأما من جهة سببه: فإنه اتخذ آيات الله هزوًا، وقصد بالسبب ما لم يشرع لأجله، ولا قصده به الشارع، بل قصد ضده، فقد ضاد الشارع في الغاية والحكمة والسبب جميعا.
وقد يكون أصحاب القسم الأول من الحيل أحسن حالًا من كثير من أصحاب هذا القسم، فإنهم يقولون: إن ما نفعله حرام، وإثم، ومعصية، ونحن أصحاب تحيل بالباطل، عصاة لله ورسوله، مخالفون لدينه. وكثير من هؤلاء يجعلون هذا القسم من الدين الذي جاءت به الشريعة، وأن الشارع جوز لهم التحيل بالطرق المتنوعة على إباحة ما حرمه، وإسقاط ما أوجبه، فأين حال هؤلاء من حال أولئك؟.
ثم إن هذا النوع من الحيل يتضمن نسبة الشارع إلى العبث، وشرع ما لا فائدة فيه إلا زيادة الكلفة والعناء، فإن حقيقة الأمر عند أرباب الحيل الباطلة: أن تصير العقود الشرعية عبثا لا فائدة فيها، فإنها لم يقصد بها المحتال مقاصدها التي شرعت لها، بل لا غرض له في مقاصدها وحقائقها البتة، وإنما غرضه التوصل بها إلى ما هو ممنوع منه، فجعلها سترة وجنة يتستر بها من ارتكاب ما نهى عنه صرفًا، فأخرجه في قالب الشرع.
كما أخرجت الجهمية التعطيل في قالب التنزيه.
وأخرج المنافقون النفاق في قالب الإحسان والتوفيق والعقل المعيشى.
وأخرج الظلمة الفجرة الظلم والعدوان في قالب السياسة وعقوبة الجناة.
وأخرج المكاسون أكل المكوس في قالب إعانة المجاهدين، وسد الثغور، وعمارة الحصون.
وأخرج الروافض الإلحاد والكفر، والقدح في سادات الصحابة وحزب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأوليائه وأنصاره، في قالب محبة أهل البيت، والتعصب لهم، وموالاتهم.
وأخرجت الإباحية وفسقة المنتسبين إلى الفقر والتصوف بدعهم وشطحهم في قالب الفقر، والزهد، والأحوال، والمعارف، ومحبة الله، ونحو ذلك.
وأخرجت الاتحادية أعظم الكفر والإلحاد في قالب التوحيد، وأن الوجود واحد لا اثنان، وهو الله وحده، فليس هاهنا وجودان: خالق، ومخلوق ولا رب وعبد، بل الوجود كله واحد، وهو حقيقة الرب.
وأخرجت القدرية إنكار عموم قدرة الله تعالى على جميع الموجودات: أفعالها، وأعيانها، في قالب العدل، وقالوا: لو كان الرب قادرًا على أفعال عباده لزم أن يكون ظالما لهم، فأخرجوا تكذيبهم بالقدر في قالب العدل.
وأخرجت الجهمية جحدهم لصفات كماله سبحانه في قالب التوحيد، وقالوا: لو كان له سبحانه سمع وبصر، وقدرة، وحياة، وإرادة، وكلام يقوم به لم يكن واحدًا وكان آلهة متعددة.
وأخرجت الفسقة والذين يتبعون الشهوات الفسوق والعصيان في قالب الرجاء وحسن الظن بالله تعالى، وعدم إساءة الظن بعفوه، وقالوا: تجنب المعاصى والشهوات إزراء بعفو الله تعالى، وإساءة للظن به، ونسبة له إلى خلاف الجود والكرم والعفو.
وأخرجت الخوارج قتال الأئمة، والخروج عليهم بالسيف في قالب الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر.
وأخرج أرباب البدع جميعهم بدعهم في قوالب متنوعة، بحسب تلك البدع.
وأخرج المشركون شركهم في قالب التعظيم لله، وأنه أجل من أن يتقرب إليه بغير وسائط وشفعاء، وآلهة تقربهم إليه.
فكل صاحب باطل لا يتمكن من ترويج باطله إلا بإخراجه في قالب حق.
والمقصود: أن أهل المكر والحيل المحرمة يخرجون الباطل في القوالب الشرعية، ويأتون بصور العقود دون حقائقها ومقاصدها.
فصل:
وهذا القسم من أقسام الحيل أنواع:
أحدها: الاحتيال لحل ما هو حرام في الحال. كالحيل الربوية، وحيلة التحليل.
الثانى: الاحتيال على حل ما انعقد سبب تحريمه، فهو صائر إلى التحريم ولابد، كما إذا علق طلاقها بشرط محقق، تعليقًا يقع به، ثم أراد منع وقوع الطلاق عند الشرط فخالعها خلع الحيلة، حتى بانت، ثم تزوجها بعد ذلك.
الثالث: الاحتيال على إسقاط ما هو واجب في الحال، كالاحتيال على إسقاط الإنفاق الواجب عليه، وأداء الدين الواجب، بأن يملك ماله لزوجته أو ولده، فيصير معسرًا، فلا يجب عليه الإنفاق والأداء، وكمن يدخل عليه رمضان ولا يريد صومه، فيسافر ولا غرض له سوى الفطر، ونحو ذلك.
الرابع: الاحتيال على إسقاط ما انعقد سبب وجوبه ولم يجب، لكنه صائر إلى الوجوب. فيحتال حتى يمنع الوجوب، كالاحتيال على إسقاط الزكاة، بتمليكه ماله قبل مضى الحول لبعض أهله، ثم استرجاعه بعد ذلك. وهذا النوع ضربان:
أحدهما: إسقاط حق الله تعالى بعد وجوبه، أو انعقاد سببه.
والثانى: إسقاط حق المسلم بعد وجوبه. أو انعقاد سببه. كالاحتيال على إسقاط الشفعة التي شرعت دفعًا للضرر عن الشريك، قبل وجوبها أو بعده.
الخامس: الاحتيال على أخذ حقه أو بعضه أو بدله بخيانة كما تقدم. وله صور كثيرة.
منها: أن يجحده دينه، كما جحده.
ومنها: أن يخونه في وديعته، كما خانه.
ومنها: أن يغشه في بيع معيب، كما غشه هو في بيع معيب.
ومنها: أن يسرق ماله كما سرق ماله.
ومنها: أن يستعمله بأجره دون أجرة مثله ظلما وعدوانًا، أو غرورًا وخداعًا. أو غبنا، فيقدر المستأجر له على مال فيأخذ تمام أجرته.
وهذا النوع يستعمله كثير من أرباب الديوان، ونظار الوقوف، والعمال، وجباة الفيء والخراج والجزية والصدقة، وأمثالهم. فإن كان المال مشتركًا بين المسلمين رتعوا وربعوا، ورأى أحدهم أن من الغبن أن يفوته شيء منه. ويرى إن عدل أن له نصف ذلك المال. ويسعى في السدس، تكملة للثلثين كما قيل في بعضهم:
لَهُ نِصْفُ بَيْتِ المالِ فَرْضٌ مُقَرَّرٌ ** وَفى سُدُسِ التَّكْمِيلِ يَسْعَى لِيَخْلُصَا

مِنَ القَوْمِ لا تُثْنِيهُمُ عَنْ مُرَادِهِمْ ** عُقُوَبةُ سُلْطَانٍ بِسَوْطٍ وَلا عَصَا